فصل: الملك الناصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة تسع وأربعين وستمائة

فيها‏:‏ عاد الملك الناصر صاحب حلب إلى دمشق وقدمت عساكر المصريين فحكموا على بلاد السواحل إلى حد الشريعة، فجهز لهم الملك الناصر جيشاً فطردوهم حتى ردوهم إلى الديار المصرية، وقصروهم عليها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/212‏)‏

وتزوجت في هذه السنة أم خليل شجرة الدر بالملك المعز عز الدين أيبك التركماني، مملوك زوجها الصالح أيوب‏.‏

وفيها‏:‏ نقل تابوت الصالح أيوب إلى تربته بمدرسته، ولبست الأتراك ثياب العزاء، وتصدقت أم خليل عنه بأموال جزيلة‏.‏

وفيها‏:‏ خربت الترك دمياط ونقلوا الأهالي إلى مصر وأخلوا الجزيرة أيضاً خوفاً من عود الفرنج‏.‏

وفيها‏:‏ كمل شرح الكتاب المسمى ‏(‏بنهج البلاغة‏)‏ في عشرين مجلداً مما ألفه عبد الحميد بن داود بن هبة الله بن أبي الحديد المدائني، الكاتب للوزير مؤيد الدين بن العلقمي، فأطلق له الوزير مائة دينار وخلعة وفرساً، وامتدحه عبد الحميد بقصيدة، لأنه كان شيعياً معتزلياً‏.‏

وفي رمضان استدعى الشيخ سراج الدين عمر بن بركة النهرقلي مدرس النظامية ببغداد فولي قضاء القضاة ببغداد مع التدريس المذكور، وخلع عليه‏.‏

وفي شعبان ولي تاج الدين عبد الكريم بن الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي حسبة بغداد بعد أخيه عبد الله الذي تركها تزهد عنها، وخلع عليه بطرحة، ووضع على رأسه غاشية، وركب الحجاب في خدمته‏.‏

وفي هذه السنة صليت صلاة العيد يوم الفطر بعد العصر، وهذا اتفاق غريب‏.‏

وفيها‏:‏ وصل إلى الخليفة كتاب من صاحب اليمن صلاح الدين بن يوسف بن عمر بن رسول يذكر فيه أن رجلاً باليمن خرج فادعى الخلافة، وأنه أنفذ إليه جيشاً فكسروه وقتلوا خلقاً من أصحابه وأخذ منهم صنعاء وهرب هو بنفسه في شرذمة ممن بقي من أصحابه‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل الخليفة إليه بالخلع والتقليد‏.‏

 وفيها‏:‏ كانت وفاة‏:‏

 بهاء الدين علي بن هبة الله بن سلامة الحميري

خطيب القاهرة، رحل في صغره إلى العراق فسمع بها وغيرها، وكان فاضلاً قد أتقن معرفة مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وكان ديناً حسن الأخلاق واسع الصدر كثير البر، قل أن يقدم عليه أحد إلا أطعمه شيئاً، وقد سمع الكثير على السلفي وغيره، وأسمع الناس شيئاً كثيراً من مروياته، وكانت وفاته في ذي الحجة من هذه السنة، وله تسعون سنة ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى‏.‏

وممن توفي فيها‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/213‏)‏

 القاضي أبو الفضل عبد الرحمن بن عبد السلام

ابن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إبراهيم اللمعاني الحنفي من بيت العلم والقضاء، درس بمشهد أبي حنيفة وناب عن قاضي القضاة ابن فضلان الشافعي، ثم عن قاضي القضاة أبي صالح نصر بن عبد الرزاق الحنبلي، ثم عن قاضي القضاء عبد الرحمن بن مقبل الواسطي، ثم بعد وفاته في سنة ثلاث وثلاثين استقل القاضي عبد الرحمن اللمعاني بولاية الحكم ببغداد‏.‏

ولقب أقضى القضاة، ولم يخاطب بقاضي القضاة، ودرس للحنفية بالمستنصرية في سنة خمس وثلاثين، وكان مشكور السيرة في أحكامه ونقضه وإبرامه‏.‏

ولما توفي تولى بعده قضاء القضاة ببغداد شيخ النظامية سراج الدين النهرقلي رحمهما الله تعالى وتجاوز عنهما بمنه وكرمه آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة خمسين وستمائة هجرية

فيها‏:‏ وصلت التتار إلى الجزيرة وسروج ورأس العين وما والى هذه البلاد، فقتلوا وسبوا ونهبوا وخربوا فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ووقعوا بسنجار يسيرون بين حران ورأس العين، فأخذوا منهم ستمائة حمل سكر ومعمول من الديار المصرية، وستمائة ألف دينار، وكان عدة من قتلوا في هذه السنة من أهل الجزيرة نحواً من عشرة آلاف قتيل، وأسروا من الولدان والنساء ما يقارب ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

قال السبط‏:‏ وفيها‏:‏ حج الناس من بغداد، وكان لهم عشر سنين لم يحجوا من زمن المستنصر‏.‏

وفيها‏:‏ وقع حريق بحلب احترق بسببه ستمائة دار، ويقال إن الفرنج لعنهم الله ألقوه فيه قصداً‏.‏

وفيها‏:‏ أعاد قاضي القضاة عمر بن علي النهرقلي أمر المدرسة التاجية التي كان قد استحوذ عليها طائفة من العوام، وجعلوها كالقيسارية يبتاعون فيها مدة طويلة، وهي مدرسة جيدة حسنة قريبة الشبه من النظامية، وقد كان بانيها يقال له تاج الملك، وزير ملك شاه السلجوقي، وأول من درس بها الشيخ أبو بكر الشاشي‏.‏

 وفيها‏:‏ كانت وفاة‏:‏

 جمال الدين بن مطروح

وقد كان فاضلاً رئيساً كيساً شاعراً من كبار المتعممين، ثم استتابه الملك الصالح أيوب في وقت على دمشق فلبس لبس الجند‏.‏

قال السبط‏:‏ وكان لا يليق في ذلك‏.‏

ومن شعره في الناصر داود صاحب الكرك لما استعاد القدس من الفرنج حين سلمت إليهم في سنة ست وثلاثين في الدولة الكاملية فقال هذا الشاعر، وهو ابن مطروح رحمه الله‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/214‏)‏

المسجد الأقصى له عادة * سارت صارت مثلاً سائرا

إذا غدا للكفر مستوطناً * أن يبعث الله له ناصرا

فناصر طهره أولاً * وناصر طهره آخرا

ولما عزله الصالح من النيابة أقام خاملاً وكان كثير البر بالفقراء والمساكين، وكانت وفاته بمصر‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 شمس الدين محمد بن سعد المقدسي

الكاتب الحسن الخط كان كثير الأدب، وسمع الحديث كثيراً، وخدم السلطان الصالح إسماعيل والناصر داود، وكان ديناً فاضلاً شاعراً له قصيدة ينصح فيها السلطان الصالح إسماعيل وما يلقاه الناس من وزيره وقاضيه وغيرهما، من حواشيه‏.‏

من الأعيان‏:‏

 عبد العزيز بن علي

ابن عبد الجبار المغربي، أبوه ولد ببغداد، وسمع بها الحديث، وعني بطلب العلم وصنف كتاباً في مجلدات على حروف المعجم في الحديث، وحرر فيه حكاية مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى‏.‏

 الشيخ أبو عبد الله محمد بن غانم بن كريم

الأصبهاني، قدم بغداد وكان شاباً فاضلاً، فتتلمذ للشيخ شهاب الدين السهروردي، وكان حسن الطريقة، له يد في التفسير، وله تفسير على طريقة التصوف، وفيه لطافة، ومن كلامه في الوعظ‏:‏

العالم كالذرة في فضاء عظمته، والذرة كالعالم في كتاب حكمته، الأصول فروع إذا تجلى جمال أوليته، والفروع أصول إذا طلعت من مغرب نفي الوسائط شمس أخريته، أستار الليل مسدولة، وشموع الكواكب مشعولة، وأعين الرقباء عن المشتاقين مشغولة، وحجاب الحجب عن أبواب الوصل معزولة ما هذه الوقعة والحبيب قد فتح الباب‏؟‏ ما هذه الفترة والمولى قد خرق حاجب الحجاب ‏؟‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/215‏)‏

وقوفي بأكناف العقيق عقوق * إذا لم أرد والدمع فيه عقيق

وإذ لم أمت شوقاً إلى ساكن الحمى * فما أنا فيما أدعيه صدوق

أيا ربع ليلى ما المحبون في الهوى * سواء، ولا كل الشراب رحيق

ولا كل من تلقاه يلقاك قلبه * ولا كل من يحنو إليك مشوق

تكاثرت الدعوى على الحب فاستوى * أسير صبابات الهوى وطليق

أيها الآمنون، هل فيكم من يصعد إلى السماء‏؟‏ أيها المحبوسون في مطامير مسمياتهم، هل فيكم سليم في الفهم يفهم رموز الوحوش والأطيار‏؟‏ هل فيكم موسوي الشوق يقول بلسان شوقه أرني أنظر إليك، فقد طال الانتظار‏؟‏

ولما استسقى الناس قال بعد الاستسقاء‏:‏ لما صعدت إلى الله عز وجل نفس المشتاق بكت آماق الآفاق، وجادت بالدر مرضعة السحاب، وامتص لبن الرحمة رضيع التراب وخرج من أخلاف الغمام نطاف الماء النمير، فاهتزت به الهامدة، وقرت عيون المدر، وتزينت الرياض بالسندس الأخضر، فحبر الصب حبرها أحسن تحبير، وأنفلق بأنملة الصبا أكمام الأنوار، وانشقت بنفحات أنفاسه جيوب الأزهار، ونطقت أجزاء الكائنات بلغات صفاتها، وعادات عبرها‏:‏

أيها النائمون تيقظوا، أيها المبعدون تعرضوا ‏{‏فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 50‏]‏‏.‏

 أبو الفتح نصر الله بن هبة الله

ابن عبد الباقي بن هبة الله بن الحسين بن يحيى بن صاقعة الغفاري الكناني المصري ثم الدمشقي كان من أخصاء الملك المعظم، وولده الناصر داود، وقد سافر معه إلى بغداد في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكان أديباً مليح المحاضرة رحمه الله تعالى‏.‏

ومن شعره قوله‏:‏

ولما أبيتم سادتي عن زيارتي * وعوضتموني بالبعاد عن القرب

ولم تسمحوا بالوصل في حال يقظتي * ولم يصطبر عنكم لرقته قلبي

نصبت لصيد الطيف جفني حبالةً * فأدركت خفض العيش بالنوم والنصب

 ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وستمائة

فيها‏:‏ دخل الشيخ نجم الدين البادرائي رسول الخليفة بين صاحب مصر وصاحب الشام، وأصلح بين الجيشين، وكانوا قد اشتد الحرب بينهم ونشبت، وقد مالأ الجيش المصري الفرنج ووعدهم أن يسلموا إليهم بيت المقدس إن نصروهم على الشاميين، وجرت خطوب كثيرة، فأصلح بينهم وخلص جماعة من بيوت الملوك من الديار المصرية، منهم أولاد الصالح إسماعيل، وبنت الأشرف وغيرهم من أولاد صاحب حمص وغيرهم، جزاه الله خيراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/216‏)‏

وفيها‏:‏ فيما ذكر ابن الساعي كان رجل ببغداد على رأسه زبادي قابسي فزلق فتكسرت ووقف يبكي، فتألم الناس له لفقره وحاجته، وأنه لم يكن يملك غيرها، فأعطاه رجل من الحاضرين ديناراً فلما أخذه نظر فيه طويلاً ثم قال‏:‏ والله هذا الدينار أعرفه، وقد ذهب مني في جملة دنانير عام أول، فشتمه بعض الحاضرين فقال له ذلك الرجل‏:‏ فما علامة ما قلت‏؟‏

قال‏:‏ زنة هذا وكذا وكاذ، وكان معه ثلاثة وعشرون ديناراً، فوزنوه فوجدوه كما ذكر، فأخرج له الرجل ثلاثة وعشرين ديناراً، وكان قد وجدها كما قال حين سقطت منه، فتعجب الناس لذلك‏.‏

قال‏:‏ ويقرب من هذا أن رجلاً بمكة نزع ثيابه ليغتسل من ماء زمزم وأخرج من عضده دملجاً زنته خمسون مثقالاً فوضعه مع ثيابه، فلما فرغ من اغتساله لبس ثيابه ونسي الدملج ومضى، وصار إلى بغداد وبقي مدة سنتين بعد ذلك وأيس منه، ولم يبق معه شيء إلا يسير فاشترى به زجاجاً وقوارير ليبيعها ويتكسب بها، فبينما هو يطوف بها إذا زلق فسقطت القوارير فتكسرت فوقف يبكي واجتمع الناس عليه يتألمون له‏.‏

فقال في جملة كلامه‏:‏ والله يا جماعة لقد ذهب مني من مدة سنتين دملج من ذهب زنته خمسون ديناراً، ما باليت لفقده كما باليت لتكسير هذه القوارير، وما ذاك إلا لأن هذه كانت جميع ما أملك، فقال له رجل من الجماعة‏:‏ فأنا والله لقيت ذلك الدملج، وخرجه من عضده فتعجب الناس والحاضرون‏.‏ والله أعلم بالصواب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/217‏)‏

من الأعيان‏:‏

 ثم دخلت سنة اثنين وخمسين وستمائة

قال سبط ابن الجوزي في كتابه ‏(‏مرآة الزمان‏)‏‏:‏

فيها وردت الأخبار من مكة شرفها الله تعالى بأن ناراً ظهرت في أرض عدن في بعض جبالها بحيث إنه يطير شررها إلى البحر في الليل، ويصعد منها دخان عظيم في أثناء النهار، فما شكوا أنها النار التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تظهر في آخر الزمان، فتاب الناس وأقلعوا عما كانوا عليه من المظالم والفساد، وشرعوا في أفعال الخير والصدقات‏.‏

وفيها‏:‏ قدم الفارس أقطاي من الصعيد ونهب أموال المسلمين وأسر بعضهم، ومعه جماعة من البحرية المفسدين في الأرض، وقد بغوا وطغوا وتجبروا، ولا يلتفتون إلى الملك المعز أيبك التركماني، ولا إلى زوجته شجرة الدر‏.‏

فشاور المعز زوجته شجرة الدر في قتل أقطاي، فأذنت له، فعمل عليه حتى قتله في هذه السنة بالقلعة المنصورة بمصر، فاستراح المسلمون من شره‏.‏

وفيها‏:‏ درس الشيخ عز الدين بن عبد السلام بمدرسة الصالح أيوب بين القصرين‏.‏

وفيها‏:‏ قدمت بنت ملك الروم في تجمل عظيم وإقامات هائلة إلى دمشق زوجة لصاحبها الناصر بن العزيز بن الظاهر بن الناصر، وجرت أوقات حافلة بدمشق بسببها‏.‏

 من المشاهير‏:‏

 عبد الحميد بن عيسى

الشيخ شمس الدين بن الخسروشاهي، أحد مشاهير المتكلمين، وممن اشتغل على الفخر الرازي في الأصول وغيرها، ثم قدم الشام فلزم الملك الناصر داود بن المعظم وحظى عنده‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وكان شيخاً مهيباً فاضلاً متواضعاً حسن الظاهر رحمه الله تعالى‏.‏

قال السبط‏:‏ وكان متواضعاً كيساً محضر خير، لم ينقل عنه أنه آذى أحداً فإن قدر على نفع وإلا سكت، توفي بدمشق ودفن بقاسيون على باب تربة الملك المعظم رحمه الله تعالى‏.‏

الشيخ مجد الدين بن تيمية صاحب ‏(‏الأحكام‏)‏ عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن علي بن تيمية الحراني الحنبلي، جد الشيخ تقي الدين ابن تيمية، ولد في حدود سنة تسعين وخمسمائة وتفقه في صغره على عمه الخطيب فخر الدين، وسمع الكثير ورحل إلى البلاد وبرع في الحديث والفقه وغيره، ودرس وأفتى وانتفع به الطلبة ومات يوم الفطر بحران‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/218‏)‏

 الشيخ كمال الدين بن طلحة

الذي ولي الخطابة بدمشق بعد الدولعي، ثم عزل وصار إلى الجزيرة فولى قضاء نصيبين، ثم صار إلى حلب فتوفى بها في هذه السنة‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وكان فاضلاً عالماً طلب أن يلي الوزارة فامتنع من ذلك، وكان هذا من التأييد رحمه الله تعالى‏.‏

 السيد بن علان

آخر من روى عن الحافظ ابن عساكر سماعاً بدمشق‏.‏

 الناصح فرج بن عبد الله الحبشي

كان كثير السماع مسنداً خيراً صالحاً مواظباً على سماع الحديث وإسماعه إلى أن مات بدار الحديث النورية بدمشق رحمه الله‏.‏

 النصرة بن صلاح الدين يوسف بن أيوب

توفي بحلب في هذه السنة‏.‏ وآخرون رحمهم الله أجمعين‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وستمائة

قال السبط‏:‏ فيها عاد الناصر داود من الأنبار إلى دمشق، ثم عاد وحج من العراق وأصلح بين العراقيين، وأهل مكة، ثم عاد معهم إلى الحلة‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفيها في ليلة الاثنين ثامن عشر صفر توفي بحلب الشيخ الفقيه‏:‏

ضياء الدين صقر بن يحيى بن سالم

وكان فاضلاً ديناً‏.‏

ومن شعره قوله رحمه الله تعالى‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/219‏)‏

من ادعى أن له حالة * تخرجه عن منهج الشرع

فلا تكونن له صاحباً * فإنه ضرٌ بلا نفع

وهو واقف القوصية‏.‏

أبو العز إسماعيل بن حامد

ابن عبد الرحمن الأنصاري القوصي، واقف داره بالقرب من الرحبة على أهل الحديث وبها قبره، وكان مدرساً بحلقة جمال الإسلام تجاه البدارة، فعرفت به، وكان ظريفاً مطبوعاً حسن المحاضرة، وقد جمع له معجماً حكى فيه عن مشايخه أشياء كثيرة مفيدة‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وقد طالعته بخطه فرأيت فيه أغاليط وأوهاماً في أسماء الرجال وغيرها، فمن ذلك أنه انتسب إلى سعد بن عبادة ابن دلم فقال سعد بن عبادة بن الصامت وهذا غلط‏.‏

وقال في شدة خرقه التصوف فغلط وصحف حيياً أبا محمد حسيناً‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ رأيت ذلك بخطه، توفي يوم الاثنين سابع عشر ربيع الأول من هذه السنة رحمه الله‏.‏

وقد توفي الشريف المرتضي نقيب الأشراف بحلب، وكانت وفاته بها، رحمه الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة

فيها‏:‏ كان ظهور النار من أرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى، كما نطق بذلك الحديث المتفق عليه، وقد بسط القول في ذلك الشيخ الإمام العلامة الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقدسي في كتابه ‏(‏الذيل‏)‏ وشرحه، واستحضره من كتب كثيرة وردت متواترة إلى دمشق من الحجاز بصفة أمر هذه النار التي شوهدت معاينة، وكيفية خروجها وأمرها، وهذا محرر في كتاب‏:‏ دلائل النبوة من السيرة النبوية، في أوائل هذا الكتاب ولله الحمد والمنة‏.‏

وملخص ما أورده أبو شامة أنه قال‏:‏ وجاء إلى دمشق كتب من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، بخروج نار عندهم في خامس جمادى الآخرة من هذه السنة، وكتبت الكتب في خامس رجب، والنار بحالها، ووصلت الكتب إلينا في عاشر شعبان ثم قال‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم، ورد إلى مدينة دمشق في أوائل شعبان من سنة أربع وخمسين وستمائة كتب من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى‏)‏‏)‏ فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب‏.‏

قال‏:‏ وكنا في بيوتنا تلك الليالي، وكان في دار كل واحد منا سراج، ولم يكن لها حر ولفح على عظمها، إنما كانت آية من آيات الله عز وجل‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وهذه صورة ما وقفت عليه من الكتب الواردة فيها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/220‏)‏

لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة ربع وخمسين وستمائة ظهر بالمدينة النبوية دوي عظيم، ثم زلزلة عظيمة رجفت منها الأرض والحيطان والسقوف والأخشاب والأبواب، ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور‏.‏

ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة قريبة من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وهي نار عظيمة إشعالها أكثر من ثلاث منارات، وقد سالت أودية بالنار إلى وادي شظا مسيل الماء، وقد مدت مسيل شظا وما عاد يسيل، والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيراناً، وقد سدت الحرة طريق الحاج العراقي، فسارت إلى أن وصلت إلى الحرة فوقفت بعد ما أشفقنا أن تجيء إلينا‏.‏

ورجعت تسيل في الشرق فخرج من وسطها سهود وجبال نيران تأكل الحجارة‏.‏

فيها‏:‏ أنموذج عما أخبر الله تعالى في كتابه‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 32-33‏]‏ وقد أكلت الأرض، وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين وستمائة والنار في زيادة ما تغيرت، وقد عادت إلى الحرار في قريظة طريق عير الحاج العراقي إلى الحرة كلها نيران تشتعل نبصرها في الليل من المدينة كأنها مشاعل الحاج‏.‏

وأما أم النار الكبيرة فهي جبال نيران حمر، والأم الكبيرة التي سالت النيران منها من عند قريظة، وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيء يتم بعد ذلك، والله يجعل العاقبة إلى خير، فما أقدر أصف هذه النار‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفي كتاب آخر فظهر في أول جمعة من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ووقع في شرقي المدينة المشرفة نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم‏:‏ انفجرت من الأرض وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد‏.‏

ثم وقفت وعادت إلى الساعة، ولا ندري ماذا نفعل، ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى نبيهم عليه الصلاة والسلام مستغفرين تائبين إلى ربهم تعالى، وهذه دلائل القيامة‏.‏

قال‏:‏ وفي كتاب آخر‏:‏ لما كان يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة وقع بالمدينة صوت يشبه صوت الرعد البعيد تارة وتارة، أقام على هذه الحالة يومين، فلما كانت ليلة الأربعاء ثالث الشهر المذكور تعقب الصوت الذي كنا نسمعه زلازل‏.‏

فلما كان يوم الجمعة خامس الشهر المذكور انبجست الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي برأي العين من المدينة، نشاهدها وهي ترمي بشرر كالقصر، كما قال الله تعالى، وهي بموضع يقال له أجيلين وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره أربع فراسخ، وعرضه أربعة أميال، وعمقه قامة ونصف، وهي تجري على وجه الأرض ويخرج منها أمهاد وجبال صغار، وتسير على وجه الأرض وهو صخر يذوب حتى يبقى منك الآنك‏.‏

فإذا جمد صار أسود، وقبل الجمود لونه أحمر، وقد حصل بسبب هذه النار إقلاع عن المعاصي، والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات، وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة إلى أهلها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/221‏)‏

قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة‏:‏ ومن كتاب شمس الدين بن سنان بن عبد الوهاب بن نميلة الحسيني قاضي المدينة إلى بعض أصحابه‏:‏ لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة حدث بالمدينة بالثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها، وباتت باقي تلك الليلة تزلزل كل يوم وليلة قدر عشر نوبات، والله لقد زلزلت مرة ونحن حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن أوجسنا منه إذ سمعنا صوتاً للحديد الذي فيه‏.‏

واضطربت قناديل الحرم الشريف، وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى، ولها دوي مثل دوي الرعد القاصف، ثم طلع يوم الجمعة في طريق الحرة في رأس أجيلين نار عظيمة مثل المدينة العظيمة، وما بانت لنا إلا ليلة السبت وأشفقنا منها وخفنا خوفاً عظيماً، وطلعت إلى الأمير كلمته وقلت له‏:‏ قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله تعالى، فاعتق كل مماليكه ورد على جماعة أموالهم، فلما فعل ذلك قلت‏:‏

اهبط الساعة معنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهبط وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنسوان وأولادهم، وما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا عند النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم سال منها نهر من نار، وأخذ في وادي أجيلين وسد الطريق ثم طلع إلى بحرة الحاج وهو بحر نار يجري، وفوقه جمر يسير إلى أن قطعت الوادي وادي الشفا، وما عاد يجيء في الوادي سيل قط لأنها حضرته نحو قامتين وثلث علوها، والله يا أخي إن عيشتنا اليوم مكدرة والمدينة قد تاب جميع أهلها، ولا بقي يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب، وتمت النار تسيل إلى أن سدت بعض طريق الحاج وبعض بحرة الحاج‏.‏

وجاء في الوادي إلينا منها يسير وخفنا أنه يجيئنا فاجتمع الناس ودخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتابوا عنده جميعهم ليلة الجمعة، وأما قتيرها الذي مما يلينا فقد طفئ بقدرة الله وأنها إلى الساعة وما نقصت إلا ترى مثل الجمال حجارة ولها دوي ما يدعنا نرقد ولا نأكل ولا نشرب، وما أقدر أصف لك عظمها ولا ما فيها من الأهوال‏.‏

وأبصرها أهل ينبع وندبوا قاضيهم ابن أسعد وجاء وعدا إليها، وما صبح يقدر يصفها من عظمها، وكتب الكتاب يوم خامس رجب، وهي على حالها، والناس منها خائفون، والشمس والقمر من يوم ما طلعت ما يطلعان إلا كاسفين، فنسأل الله العافية‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وبان عندنا بدمشق أثر الكسوف من ضعف نورها على الحيطان، وكنا حيارى من ذلك إيش هو‏؟‏ إلى أن جاءنا هذا الخبر عن هذه النار‏.‏

قلت‏:‏ وكان أبو شامة قد أرخ قبل مجيء الكتب بأمر هذه النار، فقال‏:‏ وفيها‏:‏ في ليلة الاثنين السادس عشر من جمادى الآخرة خسف القمر أول الليل، وكان شديد الحمرة ثم انجلى، وكسفت الشمس، وفي غده احمرت وقت طلوعها وغروبها وبقيت كذلك أياماً متغيرة اللون ضعيفة النور، والله على كل شيء قدير، ثم قال‏:‏ واتضح بذلك ما صوره الشافعي من اجتماع الكسوف والعيد، واستبعده أهل النجامة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/222‏)‏

ثم قال أبو شامة‏:‏ ومن كتاب آخر من بعض بني الفاشاني بالمدينة يقول فيه‏:‏ وصل إلينا في جمادى الآخرة نجابة من العراق وأخبروا عن بغداد أنه أصابها غرق عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد إليها، وغرق كثير منها، ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد، وانهدمت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون داراً، وانهدم مخزن الخليفة، وهلك من خزانة السلاح شيء كثير، وأشرف الناس على الهلاك وعادت السفن تدخل إلى وسط البلدة، وتخترق أزقة بغداد‏.‏

قال‏:‏ وأما نحن فإنه جرى عندنا أمر عظيم‏:‏ لما كان بتاريخ ليلة الأربعاء الثالث من جمادى الآخرة ومن قبلها بيومين، عاد الناس يسمعون صوتاً مثل صوت الرعد، فانزعج لها الناس كلهم، وانتبهوا من مراقدهم وضج الناس بالاستغفار إلى الله تعالى‏.‏

وفزعوا إلى المسجد وصلوا فيه، وتمت ترجف بالناس ساعة بعد ساعة إلى الصبح، وذلك اليوم كله يوم الأربعاء وليلة الخميس كلها وليلة الجمعة، وصبح يوم الجمعة ارتجت الأرض رجة قوية إلى أن اضطرب منار المسجد بعضه ببعض، وسمع لسقف المسجد صرير عظيم، وأشفق الناس من ذنوبهم، وسكنت الزلزلة بعد صبح يوم الجمعة إلى قبل الظهر‏.‏

ثم ظهرت عندنا بالحرة وراء قريظة على طريق السوارقية بالمقاعد مسيرة من الصبح إلى الظهر نار عظيمة تنفجر من الأرض، فارتاع لنا الناس روعة عظيمة‏.‏

ثم ظهر لها دخان عظيم في السماء ينعقد حتى يبقى كالسحاب الأبيض، فيصل إلى قبل مغيب الشمس من يوم الجمعة‏.‏

ثم ظهرت النار لها ألسن تصعد في الهواء إلى السماء حمراء كأنها القلعة، وعظمت وفزع الناس إلى المسجد النبوي وإلى الحجرة الشريفة، واستجار الناس بها وأحاطوا بالحجرة وكشفوا رؤوسهم وأقروا بذنوبهم وابتهلوا إلى الله تعالى واستجاروا نبيه عليه الصلاة والسلام، وأتى الناس إلى المسجد من كل فج ومن النخل، وخرج النساء من البيوت والصبيان، واجتمعوا كلهم وأخلصوا إلى الله، وغطت حمرة النار السماء كلها حتى بقي الناس في مثل ضوء القمر، وبقيت السماء كالعلقة، وأيقن الناس بالهلاك أو العذاب‏.‏

وبات الناس تلك الليلة بين مصل وتال للقرآن وراكع وساجد، وداعٍ إلى الله عز وجل، ومتنصل من ذنوبه ومستغفر وتائب، ولزمت النار مكانها وتناقص تضاعفها ذلك ولهيبها، وصعد الفقيه والقاضي إلى الأمير يعظونه، فطرح المكس وأعتق مماليكه كلهم وعبيده، ورد علينا كل ما لنا تحت يده، وعلى غيرنا، وبقيت تلك النار على حالها تلتهب التهاباً، وهي كالجبل العظيم ارتفاعاً و كالمدينة عرضاً، يخرج منها حصى يصعد في السماء ويهوي فيها ويخرج منها كالجبل العظيم نار ترمي كالرعد‏.‏

وبقيت كذلك أياماً ثم سالت سيلاناً إلى وادي أجيلين تنحدر مع الوادي إلى الشظا، حتى لحق سيلانها بالبحرة بحرة الحاج، والحجارة معها تتحرك وتسير حتى كادت تقارب حرة العريض‏.‏

ثم سكنت ووقفت أياماً، ثم عادت ترمي بحجارة خلفها وأمامها، حتى بنت لها جبلين وما بقي يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياماً، ثم إنها عظمت وسناءها إلى الآن، وهي تتقد كأعظم ما يكون، ولها كل يوم صوت عظيم في آخر الليل إلى ضحوة، ولها عجائب ما أقدر أن أشرحها لك على الكمال، وإنما هذا طرف يكفي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/223‏)‏

والشمس والقمر كأنهما منكسفان إلى الآن‏.‏ وكتب هذا الكتاب ولها شهر وهي في مكانها ما تتقدم ولا تتأخر‏.‏

وقد قال فيها بعضهم أبياتاً‏:‏

يا كاشف الضر صفحاً عن جرائمنا * لقد أحاطت بنا يا رب بأساء

نشكو إليك خطوباً لا نطيق لها * حملاً ونحن بها حقاً أحقاء

زلازل تخشع الصم الصلاب لها * وكيف يقوى على الزلزال شماء

أقام سبعاً يرج الأرض فانصدعت * عن منظر منه عين الشمس عشواء

بحر من النار تجري فوقه سفن * من الهضاب لها في الأرض أرساء

كأنما فوقه الأجبال طافيةٌ * موج عليه لفرط البهج وعثاء

ترمي لها شرراً كالقصر طائشةً * كأنها ديمةٌ تنصب هطلاء

تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت * رعباً وترعد مثل السعف أضواء

منها تكاثف في الجو الدخان إلى * أن عادت الشمس منه وهي دهماء

قد أثرت سفعةً في البدر لفحتها * فليلة التم بعد النور ليلاء

تحدث النيرات السبع ألسنها * بما يلاقى بها تحت الثرى الماء

وقد أحاط لظاها بالبروج إلى * أن كاد يلحقها بالأرض إهواءُ

فيالها آية من معجزات رسو * ل الله يعقلها القوم الألباء

فباسمك الأعظم المكنون إن عظمت * منا الذنوب وساء القلب أسواء

فاسمح وهب وتفضل وامح واعف وجد * واصفح فكل لفرط الجهل خطاء

فقوم يونس لما آمنوا كشف الـ * ـعذاب عنهم وعم القوم نعماء

ونحن أمة هذا المصطفى ولنا * منه إلى عفوك المرجو دعاء

هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت * محجة في سبيل الله بيضاء

فارحم وصل على المختار ما خطبت * على علا منبر الأوراق ورقاء

قلت‏:‏ والحديث الوارد في أمر هذه النار مخرج في الصحيحين من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى‏)‏‏)‏ وهذا لفظ البخاري‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/224‏)‏

وقد وقع هذا في هذه السنة - أعني سنة أربع وخمسين وستمائة -كما ذكرنا، وقد أخبرني قاضي القضاة صدر الدين علي بن أبي القاسم التميمي الحنفي الحاكم بدمشق في بعض الأيام في المذاكرة، وجرى ذكر هذا الحديث وما كان من أمر هذه النار في هذه السنة فقال‏:‏ سمعت رجلاً من الأعراب يخبر والدي ببصرى في تلك الليالي أنهم رأوا أعناق الإبل في ضوء هذه النار التي ظهرت في أرض الحجاز‏.‏

قلت‏:‏ وكان مولده في سنة ثنتين وأربعين وستمائة، وكان والده مدرساً للحنفية ببصرى وكذلك كان جده، وهو قد درس بها أيضا ثم انتقل إلى دمشق فدرس بالصادرية وبالمعدمية، ثم ولي قضاء القضاة الحنفية، وكان مشكور السيرة في الأحكام، وقد كان عمره حين وقعت هذه النار بالحجاز ثنتا عشرة سنة، ومثله ممن يضبط ما يسمع من الخبر أن الأعرابي أخبر والده في تلك الليالي، وصلوات الله وسلامه على نبيه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً‏.‏

ومما نظمه بعض الشعراء في هذه النار الحجازية وغرق بغداد قوله‏:‏

سبحان من أصبحت مشيئته * جارية في الورى بمقدار

اغرق بغداد بالمياه كما * أحرق أرض الحجاز بالنار

قال أبو شامة‏:‏ والصواب أن يقال‏:‏

في سنة أغرق العراق وقد * أحرق أرض الحجاز بالنار

وقال ابن الساعي في تاريخ سنة أربع وخمسين وستمائة‏:‏ في يوم الجمعة ثامن عشر رجب - يعني من هذه السنة - كنت جالساً بين يدي الوزير فورد عليه كتاب من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم صحبة قاصد يعرف بقيماز العلوي الحسني المدني، فناوله الكتاب فقرأه وهو يتضمن أن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم زلزلت يوم الثلاثاء ثاني جمادى الآخرة حتى ارتج القبر الشريف النبوي، وسمع صرير الحديد، وتحركت السلاسل، وظهرت نار على مسيرة أربع فراسخ من المدينة، وكانت ترمي بزبد كأنه رؤوس الجبال، ودامت خمسة عشر يوماً‏.‏

قال القاصد‏:‏ وجئت ولم تنقطع بعد، بل كانت على حالها، وسأله إلى أي الجهات ترمي‏؟‏ فقال‏:‏ إلى جهة الشرق، واجتزت عليها أنا ونجابة اليمن ورمينا فيها سعفة فلم تحرقها، بل كانت تحرق الحجارة وتذيبها‏.‏

وأخرج قيماز المذكور شيئاً من الصخر المحترق وهو كالفحم لوناً وخفة‏.‏

قال وذكر في الكتاب وكان بخط قاضي المدينة أنهم لما زلزلوا دخلوا الحرم وكشفوا رؤوسهم واستغفروا وأن نائب المدينة أعتق جميع ممالكيه، وخرج من جميع المظالم، ولم يزالوا مستغفرين حتى سكنت الزلزلة، إلا أن النار التي ظهرت لم تنقطع‏.‏

وجاء القاصد المذكور ولها خمسة عشر يوماً وإلى الآن‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ وقرأت بخط العدل محمود بن يوسف بن الأمعاني شيخ حرم المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، يقول‏:‏ إن هذه النار التي ظهرت بالحجاز آية عظيمة، وإشارة صحيحة دالة على اقتراب الساعة، فالسعيد من انتهز الفرصة قبل الموت، وتدارك أمره بإصلاح حاله مع الله عز وجل قبل الموت‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/225‏)‏

وهذه النار في أرض ذات حجر لا شجر فيها ولا نبت، وهي تأكل بعضها بعضاً إن لم تجد ما تأكله، وهي تحرق الحجارة وتذيبها، حتى تعود كالطين المبلول، ثم يضربه الهواء حتى يعود كخبث الحديد الذي يخرج من الكير، فالله يجعلها عبرة للمسلمين ورحمة للعالمين، بمحمد وآله الطاهرين‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفي ليلة الجمعة مستهل رمضان من هذه السنة احترق مسجد المدينة على ساكنه أفضل الصلاة والسلام، ابتدأ حريقه من زاويته الغربية من الشمال، وكان دخل أحد القومة إلى خزانة ثم ومعه نار فعلقت في الأبواب ثم، واتصلت بالسقف بسرعة، ثم دبت في السقوف، وأخذت قبلة فأعجلت الناس عن قطعها، فما كان إلا ساعة حتى احترقت سقوف المسجد أجمع، ووقعت بعض أساطينه وذاب رصاصها، وكل ذلك قبل أن ينام الناس، واحترق سقف الحجرة النبوية ووقع ما وقع منه في الحجرة، وبقي على حاله حتى شرع في عمارة سقفه وسقف المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، وأصبح الناس فعزلوا موضعا للصلاة، وعد ما وقع من تلك النار الخارجة وحريق المسجد من جملة الآيات، وكأنها كانت منذرة بما يعقبها في السنة الآتية من الكائنات على ما سنذكره‏.‏ هذا كلام الشيخ شهاب الدين أبي شامة‏.‏

وقد قال أبو شامة‏:‏ في الذي وقع في هذه السنة وما بعدها شعراً وهو قوله‏:‏

بعد ست من المئين والخمسـ * ين لدى أربع جرى في العام

نار أرض الحجاز مع حرق المس * جد معه تغريق دار السلام

ثم أخذ التتار بغداد في أو * ل عام، من بعد ذاك وعام

لم يعن أهلها وللكفر أعوا * ن عليهم، يا ضيعة الإسلام

وانقضت دولة الخلافة منها * صار مستعصم بغير اعتصام

فحناناً على الحجاز ومصر * وسلاماً على بلاد الشآم

ربّ سلم وصن وعاف بقايا * المدن، يا ذا الجلال والإكرام

وفي هذه السنة كملت المدرسة الناصرية الجوانية داخل باب الفراديس، وحضر فيها الدرس واقفها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غياث الدين غازي ابن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فاتح بيت المقدس، ودرس فيها قاضي البلد صدر الدين ابن سناء الدولة، وحضر عنده الأمراء والدولة والعلماء وجمهور أهل الحل والعقد بدمشق‏.‏ وفيها أمر بعمارة الرباط الناصري بسفح قاسيون‏.‏

 وممن توفي في هذه السنة من الأعيان‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/226‏)‏

 الشيخ عماد الدين عبد الله بن الحسن بن النحاس

ترك الخلائق وأقبل على الزهادة والتلاوة والعبادة والصيام المتتابع والانقطاع بمسجده بسفح قاسيون نحواً من ثلاثين سنة، وكان من خيار الناس‏.‏

ولما توفي دفن عند مسجده بتربة مشهورة به، وحمام ينسب إليه في مساريق الصالحية، وقد أثنى عليه السبط، وأرخوا وفاته كما ذكرت‏.‏

 يوسف بن الأمير حسام الدين

قزأوغلي بن عبد الله عتيق الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة الحنبلي رحمه الله تعالى‏.‏ الشيخ شمس الدين‏.‏ أبو المظفر الحنفي البغدادي ثم الدمشقي، سبط ابن الجوزي، أمه رابعة بنت الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي الواعظ، وقد كان حسن الصورة طيب الصوت حسن الوعظ كثير الفضائل والمصنفات، وله ‏(‏مرآة الزمان‏)‏ في عشرين مجلداً من أحسن التواريخ، نظم فيه المنتظم لجده وزاد عليه وذيل إلى زمانه، وهو من أبهج التواريخ‏.‏

قدم دمشق في حدود الستمائة وحظي عند ملوك بني أيوب، وقدموه وأحسنوا إليه، وكان له مجلس وعظ كل يوم سبت بكرة النهار عند السارية التي تقوم عندها الوعاظ اليوم عند باب مشهد علي بن الحسين زين العابدين، وقد كان الناس يبيتون ليلة السبت بالجامع ويتركون البساتين في الصيف حتى يسمعوا ميعاده، ثم يسرعون إلى بساتينهم فيتذاكرون ما قاله من الفوائد والكلام الحسن، على طريقة جده‏.‏

وقد كان الشيخ تاج الدين الكندي، وغيره من المشايخ، يحضرون عنده تحت قبة يزيد، التي عند باب المشهد، ويستحسنون ما يقول‏.‏

ودرس بالعزية البرانية التي بناها الأمير عز الدين أيبك المعظمي، أستاذ دار المعظم، وهو واقف العزية الجوانية التي بالكشك أيضاً، وكانت قديماً تعرف بدور ابن منقذ‏.‏

ودرس السبط أيضاً بالشبلية التي بالجبل عند جسر كحيل، وفوض إليه البدرية التي قبالتها، فكانت سكنه، وبها توفي ليلة الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وحضر جنازته سلطان البلد الناصر بن العزيز فمن دونه‏.‏

وقد أثنى عليه الشيخ شهاب الدين أبو شامة في علومه وفضائله ورياسته وحسن وعظه وطيب صوته ونضارة وجهه، وتواضعه وزهده وتودده، لكنه قال‏:‏ وقد كنت مريضاً ليلة وفاته فرأيت وفاته في المنام قبل اليقظة، ورأيته في حالة منكرة، ورآه غيري أيضاً، فنسأل الله العافية‏.‏ ولم أقدر على حضور جنازته، وكانت جنازته حافلة حضره السلطان والناس، ودفن هناك‏.‏

وقد كان فاضلاً عالماً ظريفاً منقطعاً منكراً على أرباب الدول ما هم عليه من المنكرات، وقد كان مقتصداً في لباسه مواظباً على المطالعة والاشتغال والجمع والتصنيف، منصفاً لأهل العلم والفضل، مبايناً لأولي الجهل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/227‏)‏

وتأتي الملوك وأرباب المناصب إليه زائرين وقاصدين، وربي في طول زمانه في حياة طيبة وجاه عريض عند الملوك والعوام نحو خمسين سنة، وكان مجلس وعظه مطرباً، وصوته فيما يورده حسناً طيباً، رحمه الله تعالى ورضى عنه‏.‏

وقد سئل في يوم عاشوراء زمن الملك الناصر صاحب حلب أن يذكر للناس شيئاً من مقتل الحسين فصعد المنبر وجلس طويلاً لا يتكلم، ثم وضع المنديل على وجهه وبكى شديداً ثم أنشأ يقول وهو يبكي

ويل لمن شفعاؤه خصماؤه * والصور في نشر الخلائق ينفخُ

لا بد أن ترد القيامة فاطمٌ * وقميصها بدم الحسين ملطخُ

ثم نزل عن المنبر وهو يبكي وصعد إلى الصالحية وهو كذلك رحمه الله‏.‏

 واقف مرستان الصالحية

الأمير الكبير سيف الدين أبو الحسن يوسف ابن أبي الفوارس بن موسك القيمري الكردي، أكبر أمراء القيمرية، كانوا يقفون بين يديه كما تعامل الملوك، ومن أكبر حسناته وقفة المارستان الذي بسفح قاسيون، وكانت وفاته ودفنه بالسفح في القبة التي تجاه المارستان المذكورة، وكان ذا مال كثير وثروة رحمه الله‏.‏

مجير الدين يعقوب بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب

دفن عند والده بتربة العادلية‏.‏

 الأمير مظفر الدين إبراهيم

ابن صاحب صرخد عز الدين أيبك أستاذ دار المعظم واقف المعزيتين البرانية والجوانية، على الحنفية ودفن عند والده بالتربة تحت القبة عند الوراقة رحمهما الله تعالى‏.‏

 الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن نوح

المقدسي الفقيه الشافعي مدرس الرواحية بعد شيخه تقي الدين بن الصلاح، ودفن بالصوفية أيضاً، وكانت له جنازة حافلة رحمه الله‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وكثر في هذه السنة موت الفجأة‏.‏

فمات خلق كثير بسبب ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/228‏)‏

زكي الدين أبو الغورية أحد المعدلين بدمشق‏.‏

وبدر الدين بن السني أحد رؤسائها‏.‏

وعز الدين عبد العزيز بن أبي طالب بن عبد الغفار الثعلبي أبي الحسين، وهو سبط القاضي جمال الدين بن الحرستاني، رحمهم الله تعالى وعفا عنهم أجمعين‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة

فيها‏:‏ أ صبح الملك المعظم صاحب مصر عز الدين أيبك بداره ميتاً وقد ولي الملك بعد أستاذه الصالح نجم الدين أيوب بشهور‏.‏

كان فيها ملك توران شاه المعظم بن الصالح، ثم خلفته شجرة الدر أم خليل مدة ثلاثة أشهر ثم أقيم هو في الملك، ومعه الملك الأشرف موسى بن الناصر يوسف بن أقسيس ابن الكامل مدة‏.‏

ثم استقل بالملك بلا منازعة، وكسر الناصر لما أراد أخذ الديار المصرية وقتل الفارس إقطاي في سنة ثنتين وخمسين، وخلع بعده الأشرف واستقل بالملك وحده، ثم تزوج بشجرة الدر أم خليل‏.‏

وكان كريماً شجاعاً حيياً ديناً، ثم كان موته في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، وهو واقف المدرسة المعزية بمصر ومجازها من أحسن الأشياء، وهي من داخل ليست بتلك الفائقة‏.‏

وقد قال بعضهم‏:‏ هذه مجاز لا حقيقة له‏.‏

ولما قتل رحمه الله فإنهم مماليكه زوجته أم خليل شجرة الدر به، وقد كان عزم على تزوج ابنة صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، فأمرت جواريها أن يمسكنه لها فما زالت تضربه بقباقبها والجواري يعركن في معاربه حتى مات وهو كذلك، ولما سمعوا مماليكه أقبلوا بصحبة مملوكه الأكبر سيف الدين قطز، فقتلوها وألقوها على مزبلة غير مستورة العورة، بعد الحجاب المنيع والمقام الرفيع، وقد علمت على المناشير والتواقيع، وخطب الخطباء باسمها، وضربت السكة برسمها، فذهبت فلا تعرف بعد ذلك بعينها ولا رسمها‏.‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وأقامت الأتراك بعد أستاذهم عز الدين أيبك التركماني، بإشارة أكبر مماليكه الأمير سيف الدين قطز، ولده نور الدين علياً ولقبوه الملك المنصور، وخطب له على المنابر وضربت السكة باسمه وجرت الأمور على ما يختاره برأيه ورسمه‏.‏

وفيها‏:‏ كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة، فنهب الكرخ ودور الرافضة حتى دور قرابات الوزير ابن العلقمي، وكان ذلك من أقوى الأسباب في ممالأته للتتار‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/229‏)‏

وفيها‏:‏ دخلت الفقراء الحيدرية الشام، ومن شعارهم لبس الراحي والطراطير ويقصون لحاهم ويتركون شواربهم، وهو خلاف السنة، تركوها لمتابعة شيخهم حيدر حين أسره الملاحدة فقصوا لحيته وتكروا شواربه، فاقتدوا به في ذلك، وهو معذور مأجور‏.‏

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وليس لهم في شيخهم قدوة‏.‏

وقد بنيت لهم زاوية بظاهر دمشق قريباً من العونية‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة المباركة عمل عزاء واقف البادرائية بها الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد البادرائي البغدادي مدرس النظامية، ورسول الخلافة إلى ملوك الآفاق في الأمور المهمة، وإصلاح الأحوال المدلهمة، وقد كان فاضلاً بارعاً رئيساً وقوراً متواضعاً، وقد ابتنى بدمشق مدرسة حسنة مكان دار الأمير أسامة، وشرط على المقيم بها العزوبة وأن لا يكون الفقيه في غيرها من المدارس‏.‏

وإنما أراد بذلك توفر خاطر الفقيه وجمعه على طلب العلم، ولكن حصل بذلك خلل كثير وشر لبعضهم كبير، وقد كان شيخنا الإمام العلامة شيخ الشافية بالشام وغيرها برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ تاج الدين الفزاري مدرس هذه المدرسة وابن مدرسها، يذكر أنه لما حضر الواقف في أول يوم درس بها وحضر عنده السلطان الناصري، قرأ كتاب الوقف وفيه ولا تدخلها امرأة‏.‏

فقال السلطان‏:‏ ولا صبي‏؟‏

فقال الواقف‏:‏ يا مولانا السلطان ربنا ما يضرب بعصاتين‏.‏

فإذا ذكر هذه الحكاية تبسم عندها رحمه الله تعالى‏.‏

وكان هو أول من درس بها ثم ولده كمال الدين من بعده، وجعل نظرها إلى وجيه الدين بن سويد، ثم صار في ذريته إلى الآن‏.‏

وقد نظر فيه بعض الأوقات القاضي شمس الدين ابن الصائغ ثم انتزع منه حيث أثبت لهم النظر، وقد أوقف البادرائي على هذه المدرسة أوقافاً حسنة دارة، وجعل فيها خزانة كتب حسنة نافعة، وقد عاد إلى بغداد في هذه السنة فولي بها قضاء القضاة كرهاً منه، فأقام فيه سبعة عشر يوماً ثم توفي إلى رحمة الله تعالى في مستهل ذي الحجة من هذه السنة‏.‏ ودفن بالشونيزيه رحمه الله تعالى‏.‏

وفي ذي الحجة من هذه السنة بعد موت البادرائي بأيام قلائل نزلت التتار على بغداد مقدمة لملكهم هولاكو بن تولى بن جنكيز خان عليهم لعائن الرحمن، وكان افتتاحهم لها وجنايتهم عليها في أول السنة الآتية على ما سيأتي بيانه وتفصيله - وبالله المستعان‏.‏

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان البادرائي واقف البادرائية التي بدمشق كما تقدم بيانه رحمه الله تعالى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/230‏)‏

 والشيخ تقي الدين عبد الرحمن بن أبي الفهم

البلداني بها في ثامن ربيع الأول ودفن فيها، وكان شيخاً صالحاً مشتغلاً بالحديث سماعاً وكتابة وإسماعاً، إلى أن توفي وله نحو مائة سنة‏.‏

قلت وأكثر كتبه ومجاميعه التي بخطه موقوفة بخزانة الفاضلية من الكلاسة، وقد رأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ يا رسول الله ما أنا رجل جيد‏؟‏

قال‏:‏ بلى أنت رجل جيد، رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

 الشيخ شرف الدين

محمد بن أبي الفضل المرسي، وكان شيخاً فاضلاً متقناً محققاً للبحث كثير الحج، له مكانه عند الأكابر، وقد اقتنى كتباً كثيرة، وكان أكثر مقامه بالحجاز، وحيث حل عظمه رؤساء تلك البلدة وكان مقتصداً في أموره، وكانت وفاته رحمه الله بالذعقة بين العريش والداروم في منتصف ربيع الأول من هذه السنة رحمه الله‏.‏

 المشد الشاعر الأمير سيف الدين

علي بن عمر بن قزل مشد الديوان بدمشق، وكان شاعراً مطبقاً له ديوان مشهور، وقد رآه بعضهم بعد موته فسأله عن حاله فأنشده‏:‏

نقلت إلى رمس القبور وضيقها * وخوفي ذنوبي أنها بي تعثرُ

فصادفت رحماناً رؤوفاً وأنعماً * حباني بها سقياً لما كنت أحذرُ

ومن كان حسن الظن في حال موته * جميلاً بعفو الله فالعفو أجدرُ

 بشارة بن عبد الله

الأرمني الأصل بدر الدين الكاتب مولى شبل الدولة المعظمي، سمع الكندي وغيره، وكان يكتب خطاً جيداً، وأسند إليه مولاه النظر في أوقافه وجعله في ذريته، فهم إلى الآن ينظرون في الشبليتين، وكانت وفاته في النصف من رمضان من هذه السنة‏.‏

 القاضي تاج الدين

أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة جمال الدين المصري ناب عن أبيه ودرّس بالشامية، وله شعر فمنه قوله‏:‏‏(‏ج/ص‏:‏ 13/231‏)‏

صيرت فمي لفيه باللثم لئام * عمداً ورشفت من ثناياه مدامْ

فأزور وقال أنت في الفقه إمام * ريقي خمر وعندك الخمر حرامْ

 الملك الناصر

داود بن المعظم عيسى بن العادل، ملك دمشق بعد أبيه‏.‏

ثم انتزعت من يده وأخذها عمه الأشرف واقتصر على الكرك ونابلس‏.‏

ثم تنقلت به الأحوال وجرت له خطوب طوال حتى لم يبق معه شيء من المحال، وأودع وديعة تقارب مائة ألف دينار عند الخليفة المستنصر فأنكره إياها ولم يردها عليه، وقد كان له فصاحة وشعر جيد، ولديه فضائل جمة، واشتغل في علم الكلام على الشمس الخسر وشاهي تلميذ الفخر الرازي، وكان يعرف علوم الأوائل جداً، وحكوا عنه أشياء تدل إن صحت على سوء عقيدته فالله أعلم‏.‏

وذكر أنه حضر أول درس ذكر بالمستنصرية في سنة ثنتين وثلاثين وستمائة، وأن الشعراء أنشدوا المستنصر مدائح كثيرة، فقال بعضهم في جملة قصيدة له‏:‏

لو كنت في يوم السقيفة شاهداً * كنت المقدم والإمام الأعظما

فقال الناصر داود للشاعر‏:‏ اسكت فقد أخطأت، قد كان جد أمير المؤمنين العباس شاهداً يومئذ، ولم يكن المقدم، وما الإمام الأعظم إلا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال الخليفة‏:‏ صدقت فكان هذا من أحسن ما نقل عنه رحمه الله تعالى‏.‏

وقد تقاصر أمره إلى أن رسم عليه الناصر بن العزيز بقرية البويضا لعمه مجد الدين يعقوب حتى توفي بها في هذه السنة، فاجتمع الناس بجنازته، وحمل منها فصلّي عليه ودفن عند والده بسفح قاسيون‏.‏

 الملك المعز

عز الدين أيبك التركماني أول ملوك الأتراك، كان من أكبر مماليك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، وكان ديناً صيناً عفيفاً كريماً، مكث في الملك نحواً من سبع سنين ثم قتلته زوجته شجرة الدر أم خليل، وقام في الملك من بعده ولده نور الدين علي، ولقب بالملك المنصور، وكان مدير مملكة مملوك أبيه سيف الدين قطز، ثم عزله واستقل بالملك بعده نحواً من سنة وتلقب بالمظفر، فقدر الله كسرة التتار على يديه بعين جالوت‏.‏

وقد بسطنا هذا كله في الحوادث فيما تقدم وما سيأتي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/232‏)‏

 شجرة الدر بنت عبد الله

أم خليل التركية، كانت من حظايا الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان ولدها منه خليل من أحسن الصور، فمات صغيراً، وكانت تكون في خدمته لا تفارقه حضراً ولا سفراً من شدة محبته لها وقد ملكت الديار المصرية بعد مقتل ابن زوجها المعظم توران شاه، فكان يخطب لها وتضرب السكة باسمها وعلمت على المناشير مدة ثلاثة أشهر‏.‏

ثم تملك المعز كما ذكرنا، ثم تزوجها بعد تملكه الديار المصرية بسنوات، ثم غارت عليه لما بلغها أنه يريد أن يتزوج بنت صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ فعملت عليه حتى قتلته كما تقدم ذكره، فتمالأ عليها مماليكه المعزية فقتلوها وألقوها على مزبلة ثلاثة أيام‏.‏

ثم نقلت إلى تربة لها بالقرب من قبر السيدة نفيسة رحمها الله تعالى، وكانت قوية النفس، لما علمت أنه قد أحيط بها أتلفت شيئاً كثيراً من الجواهر النفيسة واللآلئ المثمنة، كسرته في الهاون لا لها ولا لغيرها، وكان وزيرها في دولتها الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليمان المعروف بابن جند وهو أول مناصبه‏.‏

 الشيخ الأسعد هبة الله بن صاعد

شرف الدين الفائزي لخدمته قديما الملك الفائز سابق الدين إبراهيم بن الملك العادل، وكان نصرانياً فأسلم، وكان كثير الصدقات والبر والصلات، استوزره المعز وكان حظياً عنده جداً، لا يفعل شيئاً إلا بعد مراجعته ومشاورته، وكان قبله في الوزارة القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز، وقبله القاضي بدر الدين السنجاري‏.‏

ثم صارت بعد ذلك كله إلى هذا الشيخ الأسعد المسلماني، وقد كان الفائزي يكاتبه المعز بالمملوك‏.‏

ثم لما قتل المعز أهين الأسعد حتى صار شقياً، وأخذ الأمير سيف الدين قطز خطه بمائة ألف دينار، وقد هجاه بهاء الدين زهير بن علي، فقال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/233‏)‏

لعن الله صاعداً * وأباه، فصاعدا

وبنيه فنازلا * واحداً ثم واحدا

ثم قتل بعد ذلك كله ودفن بالقرافة، وقد رثاه القاضي ناصر الدين ابن المنير، وله فيه مدائح وأشعار حسنة فصيحة رائقة‏.‏

 ابن أبي الحديد الشاعر العراقي

عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين أبو حامد بن أبي الحديد عز الدين المدائني، الكاتب الشاعر المطبق الشيعي الغالي، له شرح ‏(‏نهج البلاغة‏)‏ في عشرين مجلداً، ولد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمسمائة، ثم صار إلى بغداد فكان أحد الكتاب والشعراء بالديوان الخليفتي، وكان حظياً عند الوزير ابن العلقمي، لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيع والأدب والفضيلة‏.‏

وقد أورد له ابن الساعي أشياء كثيرة من مدائحه وأشعاره الفائقة الرائقة، وكان أكثر فضيلة وأدباً من أخيه أبي المعالي موفق الدين بن هبة الله، وإن كان الآخر فاضلاً بارعاً أيضاً، وقد ماتا في هذه السنة رحمهما الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة

فيها‏:‏ أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها‏.‏

استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار، هولاكو خان، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى‏.‏

وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئاً، كما ورد في الأثر‏:‏ لن يغني حذر عن قدر‏.‏

وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم‏.‏

فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة - وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها، وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/234‏)‏

وهو أن هولاكو لما كان أول بروزه من همدان متوجهاً إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنية ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره، وقالوا إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعث بشيء يسير، فأرسل شيئاً من الهدايا فاحتقرها هولاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه ولا بالا به حتى أزف قدومه‏.‏ ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم وبقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد‏.‏

وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير‏.‏

فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد، وإلى هذه الأوقات، ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكو خان لعنه الله‏.‏

ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفساً، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم، ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت‏.‏

ثم عاد إلى بغداد، وفي صحبته خوجة نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئاً كثيراً من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير‏:‏ متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاماً أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله‏.‏

ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت، وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وكان النصير وزيراً لشمس الشموس ولأبيه من قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينسبون إلى نزار بن المستنصر العبيدي، وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة هون عليه الوزير ذلك فتقلوه رفساً، وهو في جوالق لئلا يقع على الأرض شيء من دمه، خافواً أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم، وقيل بل خنق، ويقال بل أغرق فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/235‏)‏

فباؤوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاده - وستأتي ترجمة الخليفة في الوفيات - ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون‏.‏

وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار‏.‏

ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً، بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم‏.‏

وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريباً من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف‏.‏

ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعاً منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتيين، والله غالب على أمره، وقد رد كيده في نحره، وأذله بعد العزة القعساء، وجعله حوشكاشا للتتار بعد ما كان وزيراً للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والأطفال، فالحكم لله العلي الكبير رب الأرض والسماء‏.‏

وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد كما قص الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً‏}‏ الآيات ‏[‏الإسراء‏:‏ 4-5‏]‏‏.‏

وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء وأسر جماعة من أولاد الأنبياء، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معموراً بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء، فصار خاوياً على عروشه واهي البناء‏.‏

وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة‏.‏

فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر وعفي قبره‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/236‏)‏

وكان عمره يومئذ ستاً وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام، وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن، وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة‏:‏ عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحداً بعد واحد، منهم الديودار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد‏.‏

وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه‏.‏

وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم بها وعليها، فلم يقدره الله تعالى على ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا والله أعلم بالدرك الأسفل من النار‏.‏

ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/237‏)‏

وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر ملكه، وفوض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر، فوض إليه الشحنكية بها وإلى الوزير بن العلقمي فلم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وكان عنده فضيلة في الإنشاء ولديه فضيلة في الأدب، ولكنه كان شيعياً جلداً رافضياً خبيثاً، فمات جهداً وغماً وحزناً وندماً، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فولي بعده الوزارة ولده عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام ولله الحمد والمنة‏.‏

وذكر أبو شامة وشيخنا أبو عبد الله الذهبي وقطب الدين اليونيني أنه أصاب الناس في هذه السنة بالشام وباء شديد، وذكروا أن سبب ذلك من فساد الهواء والجو، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق، وانتشر حتى تعدى إلى بلاد الشام فالله أعلم‏.‏

وفي هذه السنة اقتتل المصريون مع صاحب الكرك الملك المغيث عمر بن العادل الكبير، وكان في حبسه جماعة من أمراء البحرية، منهم ركن الدين بيبرس البندقداري، فكسرهم المصريون ونهبوا ما كان معهم من الأثقال والأموال، وأسروا جماعة من رؤوس الأمراء فقتلوا صبراً، وعادوا إلى الكرك في أسوا حال وأشنعه، وجعلوا يفسدون في الأرض ويعيثون في البلاد، فأرسل الله الناصر صاحب دمشق فبعث جيشاً ليكفهم عن ذلك، فكسرهم البحرية واستنصروا فبرز إليهم الناصر بنفسه فلم يلتفتوا إليه وقطعوا أطناب خيمته التي هو فيها بإشارة ركن الدين بيبرس المذكور، وجرت حروب وخطوب يطول بسطها وبالله المستعان‏.‏

 وممن توفي في هذه السنة من الأعيان‏:‏

 خليفة الوقت المستعصم بالله

أمير المؤمنين آخر خلفاء بني العباس بالعراق رحمه الله، وهو أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بالله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الأمير الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الرشيد أبي محمد هارون بن المهدي أبي عبد الله محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي العباسي‏.‏

مولده سنة تسع وستمائة، وبويع له بالخلافة في العشرين من جمادى الأولى سنة أربعين، وكان مقتله في يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر سنة ست وخمسين وستمائة، فيكون عمره يوم قتل سبعاً وأربعين سنة رحمه الله تعالى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/238‏)‏

وقد كان حسن الصورة جيد السريرة، صحيح العقيدة مقتدياً بأبيه المستنصر في المعدلة وكثرة الصدقات وإكرام العلماء والعباد، وقد استجاز له الحافظ ابن النجار من جماعة من مشايخ خراسان منهم المؤيد الطوسي، وأبو روح عبد العزيز بن محمد الهروي، وأبو بكر القاسم بن عبد الله بن الصفار وغيرهم، وحدث عنه جماعة منهم مؤدبه شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن علي بن محمد بن النيار، وأجاز هو للإمام محيي الدين بن الجوزي، وللشيخ نجم الدين البادرائي، وحدثا عنه بهذه الإجازة‏.‏

وقد كان رحمه الله سنياً على طريقة السلف واعتقاد الجماعة كما كان أبوه وجده، ولكن كان فيه لين وعدم تيقظ ومحبة للمال وجمعه، ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعه إياها الناصر داود بن المعظم، وكانت قيمتها نحواً من مائة ألف دينار، فاستقبح هذا من مثل الخليفة وهو مستقبح ممن هو دونه بكثير، بل من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏‏.‏

قتلته التتار مظلوماً مضطهداً في يوم الأربعاء رابع عشر صفر من هذه السنة، وله من العمر ستة وأربعون سنة وأربعة أشهر، وكانت مدة خلافته خمسة عشر سنة وثمانية أشهر وأياماً، فرحمه الله وأكرم مثواه، وبل بالرأفة ثراه‏.‏

وقد قتل بعده ولداه وأسر الثالث مع بنات ثلاث من صلبه، وشغر منصب الخلافة بعده، ولم يبق في بني العباس من سد مسده، فكان آخر الخلفاء من بني العباس الحاكمين بالعدل بين الناس، ومن يرتجي منهم النوال ويخشى البأس، وختموا بعبد الله المستعصم كما فتحوا بعبد الله السفاح، بويع له بالخلافة وظهر ملكه وأمره في سنة ثنتين وثلاثين ومائة، بعد انقضاء دولة بني أمية كما تقدم بيانه، وآخرهم عبد الله المستعصم وقد زال ملكه وانقضت خلافته في هذا العام‏.‏

فجملة أيامهم خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة، وزال ملكهم عن العراق والحكم بالكلية مدة سنة وشهور في أيام البساسيري بعد الخمسين وأربعمائة، ثم عادت كما كانت‏.‏

وقد بسطنا ذلك في موضعه في أيام القائم بأمر الله ولله الحمد‏.‏

ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد كما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والأقطار والأمصار، فإنه خرج عن بني العباس بلاد المغرب، ملكها في أوائل الأمر بعض بني أمية ممن بقي منهم من ذرية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، ثم تغلب عليه الملوك بعد دهور متطاولة كما ذكرنا، وقارن بني العباس دولة المدعين أنهم من الفاطميين ببلاد مصر وبعض بلاد المغرب، وما هنالك، وبلاد الشام في بعض الأحيان والحرمين في أزمان طويلة وكذلك أخذت من أيدهم بلاد خراسان وما وراء النهر، وتداولتها الملوك دولاً بعد دول، حتى لم يبق مع الخليفة منهم إلى بغداد وبعض بلاد العراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات، كما ذكر ذلك مبسوطاً في الحوادث والوفيات‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/239‏)‏

واستمرت دولة الفاطميين قريباً من ثلاثمائة سنة حتى كان آخرهم العاضد الذي مات بعد الستين وخمسمائة في الدولة الصلاحية الناصرية القدسية، وكانت عدة ملوك الفاطميين أربعة عشر ملكاً متخلفاً، ومدة ملكهم تحريراً من سنة سبع وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد سنة بضع وستين وخمسمائة، والعجب أن خلافة النبوة التالية لزمان رسول صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثين سنة كما نطق بها الحديث الصحيح‏.‏

فكان فيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم ابنه الحسن بن علي ستة شهور حتى كملت الثلاثون كما قررنا ذلك في دلائل النبوة، ثم كانت ملكاً فكان أول ملوك الإسلام من بني أبي سفيان معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، ثم ابنه يزيد، ثم ابن ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، وانقرض هذا البطن المفتتح بمعاوية المختتم بمعاوية، ثم ملك مروان بن الحكم ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي‏.‏

ثم ابنه عبد الملك ثم الوليد بن عبد الملك، ثم أخوه سليمان ثم ابن عمه عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد بن يزيد، ثم يزيد بن الوليد، ثم أخوه إبراهيم الناقص وهو ابن الوليد أيضاً، ثم مروان بن محمد بن مروان الملقب بالحمار، وكان آخرهم فكان أولهم اسمه مروان وآخرهم اسمه مروان، ثم انقرضوا من أولهم إلى خاتمهم‏.‏

وكان أول خلفاء بني العباس عبد الله السفاح، وآخرهم عبد الله المستعصم، وكذلك أول خلفاء الفاطميين، فالأول اسمه عبد الله العاضد، وآخرهم عبد الله العاضد، وهذا اتفاق غريب جداً قل من يتنبه له، والله سبحانه أعلم‏.‏

وهذه أرجوزة لبعض الفضلاء ذكر فيها جميع الخلفاء‏:‏

الحمد لله العظيم عرشه * القاهر الفرد القوي بطشه

مقلب الأيام والدهور * وجامع الأنام للنشور

ثم الصلاة بدوام الأبد * على النبي المصطفى محمد

وآله وصحبه الكرام * السادة الأئمة الأعلام

وبعد فإن هذه أرجوزة * نظمتها لطيفة وجيزة

نظمت فيها الراشدين الخلفا * من قام بعد النبي المصطفى

ومن تلاهم وهلم جرا * جعلتها تبصرة وذكرى

ليعلم العاقل ذو التصوير * كيف جرت حوادث الأمور

وكل ذي مقدرة وملك * معرضون للفنا والهلك

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/240‏)‏

وفي اختلاف الليل والنهار * تبصرة لكل ذي اعتبار

والملك الجبار في بلاده * يورثه من شاء من عباده

وكل مخلوق فللفناء * وكل ملك فإلى انتهاء

ولا يدوم غير ملك الباري * سبحانه من ملك قهار

منفرد بالعز والبقاء * وما سواه فإلى انقضاء

أول من بويع بالخلافة * بعد النبي ابن أبي قحافة

أعني الإمام الهادي الصديقا * ثم ارتضى من بعده الفاروقا

ففتح البلاد والأمصارا * واستأصلت سيوفه الكفارا

وقام بالعدل قياماً يرضي * بذاك جبار السما و الأرض

ورضي الناس بذي النورين * ثم على والد السبطين

ثم أتت كتائب مع الحسن * كادوا بأن يجددوا بها الفتن

فأصلح الله على يديه * كما عزا نبينا إليه

وجمع الناس على معاوية * ونقل القصة كل راويه

فمهد الملك كما يريد * وقام فيه بعده يزيد

ثم ابنه وكان براً راشداً * أعني أبا ليلى وكان زاهدا

فترك الإمرة لا عن غلبه * ولم يكن إليها منه طلبه

وابن الزبير بالحجاز يدأب * في طلب الملك وفيه ينصب

وبالشام بايعوا مروانا * بحكم من يقول كن فكانا

ولم يدم في الملك غير عام * وعافصته أسهم الحمام

واستوثق الملك لعبد الملك * ونار نجم سعده في الفلك

وكل من نازعه في الملك * خر صريعاً بسيوف الهلك

وقتل المصعب بالعراق * وسير الحجاج ذا الشقاق

إلى الحجاز بسيوف النقم * وابن الزبير لائذٌ بالحرم

فجار بعد قتله بصلبه * ولم يخف في أمره من ربه

وعندما صفت له الأمور * تقلبت بجسمه الدهور

ثم أتى من بعده الوليد * ثم سليمان الفتى الرشيد

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/241‏)‏

ثم استفاض في الورى عدل عمر * تابع أمر ربه كما أمر

وكان يدعى بأشجّ القوم * وذي الصلاة والتقى والصوم

فجاء بالعدل والإحسان * وكف أهل الظلم والطغيان

مقتدياً بسنة الرسول * والراشدين من ذوي العقول

فجرع الإسلام كأس فقده * ولم يروا مثلاً له من بعده

ثم يزيد بعده هشام * ثم الوليد فت منه الهام

ثم يزيد وهو يدعى الناقصا * فجاءه حمامه معافصا

ولم تطل مدة إبراهيما * وكان كل أمره سقيما

وأسند الملك إلى مروانا * فكان من أموره ما كانا

وانقرض الملك على يديه * وحادث الدهر سطا عليه

وقتله قد كان بالصعيد * ولم تفده كثرة العديد

وكان فيه حتف آل الحكم * واستنزعت عنهم ضروب النعم

ثم أتى ملك بني العباس * ولا زال فينا ثابت الأساس

وجاءت البيعة من أرض العجم * وقلدت بيعتهم كل الأمم

وكل من نازعهم من أممٍ * خر صريعاً لليدين و الفم

وقد ذكرت من تولى منهم * حين تولى القائم المستعصم

أولهم ينعت بالسفاح * وبعده المنصور ذو الجناح

ثم أتى من بعده المهدي * يتلوه موسى الهادي الصفي

وجاء هارون الرشيد بعده * ثم الأمين حين ذاق فقده

وقام بعد قتله المأمون * وبعده المعتصم المكين

واستخلف الواثق بعد المعتصم * ثم أخوه جعفر موفي الذمم

وأخلص النية في المتوكل * لله ذي العرش القديم الأول

فأدحض البدعة في زمانه * وقامت السنة في أوانه

ولم يبق فيها بدعة مضلةٌ * وألبس المعتزلي ثوب ذله

فرحمة الله عليه أبدا * ما غار نجمٌ في السماء أو بدا

وبعده استولى وقام المعتمد * ومهد الملك وساس المقتصد

وعندما استشهد قام المنتصر * والمستعين بعده كما ذكر

وجاء بعد موته المعتز * والمهتدي الملتزم الأعز

والمكتفي في صحف العلا أسطر * وبعده ساس الأمور المقتدر

واستوثق الملك بعز القاهر * وبعده الراضي أخو المفاخر

والمتقي من بعد ذا المستكفي * ثم المطيع ما به من خلف

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/242‏)‏

والطائع الطائع ثم القادر * والقائم الزاهد وهو الشاكر

والمقتدي من بعده المستظهر * ثم أتى المسترشد الموقر

وبعده الراشد ثم المقتفي * وحين مات استنجدوا بيوسف

المستضيء العادل في أفعاله * الصادق الصدوق في أقواله

والناصر الشهم الشديد الباسِ * ودام طول مكثه في الناس

ثم تلاه الظاهر الكريم * وعدله كلٌ به عليم

ولم تطل أيامه في المملكة * غير شهور واعترته الهلكه

وعهده كان إلى المستنصر * العادل البر الكريم العنصر

دام يسوس الناس سبع عشرة * وأشهراً بعزمات برّه

ثم توفي عام أربعينا * وفي جمادى صادف المنونا

وبايع الخلائق المستعصما * صلى عليه ربنا وسلما

فأرسل الرسل إلى الآفاق * يقضون بالبيعة والوفاق

وشرفوا بذكره المنابرا * ونشروا في جوده المفاخرا

وسار في الآفاق حسن سيرته * وعدله الزائد في رعيته

قال الشيخ عماد الدين ابن كثير رحمه الله تعالى‏:‏ ثم قلت أنا بعد ذلك أبياتاً‏:‏

ثم ابتلاه الله بالتتار * أتباع جنكيز خان الجبار

صحبته ابن ابنه هولاكو * فلم يكن من أمره فكاك

فمزقوا جنوده وشمله * وقتلوه نفسه و جهله

ودمروا بغداد والبلادا * وقتلوا الأحفاد والأجدادا

وانتهبوا المال مع الحريم * ولم يخافوا سطوة العظيم

وغرهم إنظاره وحلمه * وما اقتضاه عدله وحكمه

وشغرت من بعده الخلافة * ولم يؤرخ مثلها من آفة

ثم أقام الملك أعني الظاهرا * خليفةً أعني به المستنصرا

ثم ولي من بعد ذاك الحاكم * مسيم بيبرس الإمام العالم

ثم ابنه الخليفة المستكفي * وبعض هذا للبيب يكفي

ثم ولي من بعده جماعة * ما عندهم علم ولا بضاعة

ثم تولي وقتنا المعتضد * ولا يكاد الدهر مثله يجد

في حسن خلق واعتقادٍ وحلى * وكيف لا وهو من السيم الأولى

سادوا البلاد والعباد فضلاً * وملأوا الأقطار حكماً وعدلاً

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/243‏)‏

أولاد عم المصطفى محمد * وأفضل الخلق بلا تردد

صلى عليه الله ذو الجلال * ما دامت الأيام والليالي

فصل

والفاطميون قليلوا العدة * لكنهم مد لهم في المدة

فملكوا بضعاً وستين سنة * من بعده مائتين وكان كالسنة

والعدة أربع عشرة المهدي * والقائم المنصور المعدي

أعني به المعز باني القاهرة * ثم العزيز الحاكم الكوافرة

والظاهر المستنصر المستعلي * فالآمر الحافظ عنه سوء الفعل

والظافر الفائز ثم العاضد * آخرهم وما لهذا جاحد

أهلك بعد البضع والسنينا * من قبلها خمسمائةٍ سنينا

وأصلهم يهود ليسوا شرفا * بذاك أفتى السادة الأئمة

أنصار دين الله من ذي الأمة‏.‏

فصل

وهكذا خلفاء بني أمية * عدتهم كعدة الرافضية

ولكن المدة كانت ناقصة * عن مائة من السنين خالصة

وكلهم قد كان ناصبياً * إلا الإمام عمر التقيا

معاوية ثم ابنه يزيد * وابن ابنه معاوية السديد

مروان ثم ابن له عبد الملك * منابذ لابن الزبير حتى هلك

ثم استقل بعده بالملك * في سائر الأرض بغير شك

ثم الوليد النجل باني الجامع * وليس مثله بشكله من جامع

ثم سليمان الجواد وعمر * ثم يزيد وهشام وغدر

أعني الوليد بن يزيد الفاسقا * ثم يزيد بن الوليد فائقا

يلقب الناقص وهو كامل * ثم إبراهيم وهو عاقل

ثم مروان الحمار الجعدي * آخرهم فاظفر بذا من عندي

والحمد لله على التمام * كذاك نحمد على الأنعام

ثم الصلاة مع تمام العدد * على النبي المصطفى محمد

وآله وصحبه الأخيار * في سائر الأوقات والأعصار

وهذه الأبيات نظم الكاتب * ثمانية تتمة المناقب

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/244‏)‏

وممن قتل مع الخليفة واقف الجوزية بدمشق أستاذ دار الخلافة محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن حماد بن أحمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي المعروف بابن الجوزي‏.‏

ولد في ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة، ونشأ شاباً حسناً، وحين توفي أبوه وعظ في موضعه فأحسن وأجاد وأفاد، ثم لم يزل متقدماً في مناصب الدنيا، فولي حسبة بغداد مع الوعظ الفائق والأشعار الحسنة، ثم ولي تدريس الحنابلة بالمستنصرية سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وكانت له تداريس أخر‏.‏

ولي أستاذ دار الخلافة، وكان رسولاً للملوك من بني أيوب وغيرهم من جهة الخلفاء، وانتصب ابنه عبد الرحمن مكانه للحسبة والوعظ، ثم كانت الحسبة تتنقل في بنيه الثلاثة عبد الرحمن، وعبد الله، وعبد الكريم‏.‏

وقد قتلوا معه في هذه السنة رحمهم الله‏.‏

ولمحيي الدين هذا مصنف في مذهب أحمد، وقد ذكر له ابن الساعي أشعاراً حسنة يهنئ بها الخليفة في المواسم والأعياد، تدل على فضيلة وفصاحة، وقد وقف الجوزية بدمشق وهي من أحسن المدارس، تقبل الله منه‏.‏

 الصرصري المادح رحمه الله

يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعرم عبد السلام الشيخ الإمام العلامة البارع الفاضل في أنواع من العلوم، جمال الدين أبو زكريا الصرصري، الفاضل المادح الحنبلي الضرير البغدادي، معظم شعره في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وديوانه في ذلك مشهور معروف غير منكر، ويقال إنه كان يحفظ صحاح الجوهري بتمامه في اللغة‏.‏

وصحب الشيخ علي بن إدريس تلميذ الشيخ عبد القادر، وكان ذكياً يتوقد نوراً، وكان ينظم على البديهة سريعاً أشياء حسنة فصيحة بليغة، وقد نظم ‏(‏الكافي‏)‏ الذي ألفه موفق الدين بن قدامة، و‏(‏مختصر الخرقي‏)‏‏.‏

وأما مدائحه في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال إنها تبلغ عشرين مجلداً، وما اشتهر عنه أنه مدح أحداً من المخلوقين من بني آدم إلا الأنبياء، ولما دخل التتار إلى بغداد دعي إلى ذارئها كرمون بن هولاكو فأبى أن يجيب إليه، وأعد في داره حجارة فحين دخل عليه التتار رماهم بتلك الأحجار فهشم منهم جماعة، فلما خلصوا إليه قتل بعكازه أحدهم، ثم قتلوه شهيداً رحمه الله تعالى، وله من العمر ثمان وستون سنة‏.‏

وقد أورد له قطب الدين اليونيني من ديوانه قطعة صالحة في ترجمته في ‏(‏الذيل‏)‏ استوعب حروف المعجم، وذكر غير ذلك قصائد طوالاً كثيرة حسنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/245‏)‏

 البهاء زهير صاحب الديوان

وهو زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسين بن جعفر المهلبي العتكي المصري، ولد بمكة ونشأ بقوص، وأقام بالقاهرة، الشاعر المطبق الجواد في حسن الخط له ديوان مشهور، وقدم على السلطان الصالح أيوب، وكان غزير المروءة حسن التوسط في إيصال الخير إلى الناس، ودفع الشر عنهم، وقد أثنى عليه ابن خلكان وقال‏:‏ أجاز لي رواية ديوانه وقد، بسط ترجمته القطب اليونيني‏.‏

 الحافظ زكي الدين المنذري

عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد بن سعيد، الإمام العلامة محمد أبو زكي الدين المنذري الشافعي المصري، أصله من الشام وولد بمصر، وكان شيخ الحديث بها مدة طويلة، إليه الوفادة والرحلة من سنين متطاولة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه ولد بالشام سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وسمع الكثير ورحل وطلب وعني بهذا الشأن، حتى فاق أهل زمانه فيه، وصنف وخرج واختصر ‏(‏صحيح مسلم‏)‏، و‏(‏سنن أبي داود‏)‏، وهو أحسن اختصاراً من الأول، وله اليد الطولى في اللغة والفقه والتاريخ، وكان ثقة حجة متحرياً زاهداً توفي يوم السبت رابع ذي القعدة من هذه السنة بدار الحديث الكاملية بمصر‏.‏

ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى‏.‏

 النور أبو بكر بن محمد بن محمد بن عبد العزيز

ابن عبد الرحيم بن رستم الأشعري الشاعر المشهور الخليع، كان القاضي صدر الدين بن سناء الدولة قد أجلسه مع الشهود تحت الساعات، ثم استدعاه الناصر صاحب البلد فجعله من جلسائه وندمائه، وخلع عليه خلع الأجناد فانسلخ من هذا الفن إلى غيره، وجمع كتاباً سماه ‏(‏الزرجون في الخلاعة والمجون‏)‏ وذكر فيه أشياء كثيرة من النظم والنثر والخلاعة، ومن شعره الذي لا يحمد‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/246‏)‏

لذة العمر خمسة فاقتنيها * من خليعٍ غدا أديباً فقيها

في نديم وقينةٍ وحبيبٍ * ومدامٍ وسب من لام فيها

 الوزير بن العلقمي الرافضي قبحه الله

محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن أبي طالب، الوزير مؤيد الدين أبو طالب ابن العلقمي، وزير المستعصم البغدادي، وخدمة في زمان المستنصر أستاذ دار الخلافة مدة طويلة، ثم صار وزير المستعصم وزير سوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين، مع أنه من الفضلاء في الإنشاء والأدب، وكان رافضياً خبيثاً رديء الطوية على الإسلام وأهله‏.‏

وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء، ثم مالأ على الإسلام وأهله الكفار هولاكو خان، حتى فعل ما فعل بالإسلام وأهله مما تقدم ذكره‏.‏

ثم حصل له بعد ذلك من الإهانة والذل على أيدي التتار الذين مالأهم وزال عنه ستر الله، وذاق الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، وقد رأته امرأة وهو في الذل والهوان وهو راكب في أيام التتار برذوناً وهو مرسم عليه، وسائق يسوق به ويضرب فرسه، فوقفت إلى جانبه وقالت له‏:‏

يا ابن العلقمي هكذا كان بنو العباس يعاملونك‏؟‏ فوقعت كلمتها في قلبه وانقطع في داره إلى أن مات كمداً وغبينة وضيقاً، وقلة وذلة، في مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة، وله من العمر ثلاث وستون سنة، ودفن في قبور الروافض، وقد سمع بأذنيه، ورأى بعينيه من الإهانة من التتار والمسلمين ما لا يحد ولا يوصف‏.‏

وتولى بعده ولده الخبيث الوزارة، ثم أخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة سريعاً، وقد هجاه بعض الشعراء فقال فيه‏:‏

يا فرقة الإسلام نوحوا واندبوا * أسفاً على ما حل بالمستعصم

دست الوزارة كان قبل زمانه * لابن الفرات فصار لابن العلقمي

 محمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن حيدرة

فتح الدين أبو عبد الله بن العدل محتسب دمشق، كان مشكوراً حسن الطريقة، وجده العدل نجيب الدين أبو محمد عبد الله بن حيدرة، وهو واقف المدرسة التي بالزبداني في سنة تسعين وخمسمائة تقبل الله منه وجزاه خيراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/247‏)‏

 القرطبي صاحب المفهم في شرح مسلم

أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر أبو العباس الأنصاري القرطبي المالكي الفقيه المحدث المدرس بالإسكندرية، ولد بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع الكثير هناك واختصر ‏(‏الصحيحين‏)‏، وشرح ‏(‏صحيح مسلم‏)‏المسمى بالمفهم، وفيه أشياء حسنة مفيدة محررة رحمه الله‏.‏

 الكمال إسحاق بن أحمد بن عثمان

أحد مشايخ الشافعية، أخذ عنه الشيخ محيي الدين النووي وغيره، وكان مدرساً بالرواحية، توفي في ذي القعدة من هذه السنة‏.‏

 العماد داود بن عمر بن يحيى بن عمر بن كامل

أبو المعالي وأبو سليمان الزبيدي المقدسي، ثم الدمشقي خطيب بيت الأبار، وقد خطب بالأموي ست سنين بعد ابن عبد السلام، ودرس بالغزالية، ثم عاد إلى بيت الأبار فمات بها‏.‏

علي بن محمد بن الحسين، صدر الدين أبو الحسن بن النيار شيخ الشيوخ ببغداد، وكان أولاً مؤدباً للإمام المستعصم، فلما صارت الخلافة إليه برهة من الدهور رفعه وعظمه وصارت له وجاهة عنده، وانضمت إليه أزمة الأمور، ثم إنه ذبح بدار الخلافة كما تذبح الشاة على أيدي التتار

 الشيخ علي العابد الخباز

كان له أصحاب وأتباع ببغداد، وله زاوية يزار فيها، قتلته التتار وألقي على مزبلة بباب زاويته ثلاثة أيام حتى أكلت الكلاب من لحمه، ويقال إنه أخبر بذلك عن نفسه في حال حياته‏.‏

 محمد بن إسماعيل بن أحمد بن أبي الفرج أبو عبد الله المقدسي

الخطيب براد سمع الكثير، وعاش تسعين سنة، ولد في سنة ثلاث وخمسين فسمع الناس عليه الكثير بدمشق، ثم عاد فمات ببلده برادا في هذه السنة، رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/248‏)‏

 البدر لؤلؤ صاحب الموصل

الملقب بالملك الرحيم، توفي في شعبان عن مائة سنة، وقد ملك الموصل نحواً من خمسين سنة، وكان ذا عقل ودهاء ومكر، لم يزل يعمل على أولاد أستاذه حتى أبادهم وأزال الدولة الأتابكية عن الموصل، ولما انفصل هولاكو خان عن بغداد - بعد الوقعة الفظيعة العظيمة - سار إلى خدمته طاعة له، ومعه الهدايا والتحف، فأكرمه واحترمه، ورجع من عنده فمكث بالموصل أياماً يسيرة‏.‏ ثم مات ودفن بمدرسته البدرية، وتأسف الناس عليه لحسن سيرته وجودة معدلته، وقد جمع له الشيخ عز الدين كتابه المسمى ‏(‏بالكامل في التاريخ‏)‏ فأجازه عليه وأحسن إليه، وكان يعطي لبعض الشعراء ألف دينار‏.‏

وقام في الملك بعده ولده الصالح إسماعيل‏.‏

وقد كان بدر الدين لؤلؤ هذا أرمنياً اشتراه رجل خياط، ثم صار إلى الملك نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي ابن آقسنقر الأتابكي، صاحب الموصل، وكان مليح الصورة، فحظي عنده وتقدم في دولته إلى أن صارت الكلمة دائرة عليه، والوفود من سائر جهات ملكهم إليه‏.‏

ثم إنه قتل أولاد أستاذه غيلة واحداً بعد واحد إلى أن لم يبق معه أحد منهم، فاستقل هو بالملك، وصفت له الأمور، وكان يبعث في كل سنة إلى مشهد على قنديلاً ذهباً زنته ألف دينار، وقد بلغ من العمر قريبا من تسعين سنة، وكان شاباً حسن الشباب من نضارة وجهه، وحسن شكله، وكانت العامة تلقبه‏:‏ قضيب الذهب‏.‏

وكان ذا همة عالية، وداهية شديد المكر، بعيد الغور، وبعثه إلى مشهد علي بذلك القنديل الذهب في كل سنة دليل على قلة عقله وتشيعه، والله أعلم‏.‏

 الملك الناصر داود المعظم

ترجمه الشيخ قطب الدين اليونيني في ‏(‏تذييله على المرآة‏)‏ في هذه السنة، وبسط ترجمته جداً وما جرى له من أول أمره إلى آخره‏.‏

وقد ذكرنا ترجمته في الحوادث، وأنه أودع الخليفة المستعصم في سنة سبع وأربعين وديعة قيمتها مائة ألف دينار فجحدها الخليفة، فتكرر وفوده إليه، وتوسله بالناس في ردها إليه، فلم يفد من ذلك شيئاً، وتقدم أنه قال لذلك الشاعر الذي مدح الخليفة بقوله‏:‏

لو كنت في يوم السقيفة حاضراً * كنت المقدم والإمام الأورعا

فقال له الناصر داود‏:‏ أخطأت، فقد كان جد أمير المؤمنين العباس حاضراً يوم السقيفة، ولم يكن المقدم وهو أفضل من أمير المؤمنين، وإنما كان المقدم أبو بكر الصديق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/249‏)‏

فقال الخليفة‏:‏ صدق، وخلع عليه، ونفى ذلك الشاعر - وهو الوجيه الفزاري - إلى مصر، وكانت وفاة الناصر داود بقرية البويضا مرسماً عليه، وشهد جنازته صاحب دمشق‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وخمسين وستمائة

استهلت هذه السنة وليس للمسلمين خليفة، وسلطان دمشق وحلب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن أبي الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين، وهو واقع بينه وبين المصريين‏.‏

وقد ملكوا نور الدين علي بن المعز أيبك التركماني ولقبوه‏:‏ بالمنصور، وقد أرسل الملك الغاشم هولاكو خان إلى الملك الناصر صاحب دمشق يستدعيه إليه، فأرسل إليه ولده العزيز وهو صغير ومعه هدايا كثيرة وتحف، فلم يحتفل به هولاكو خان بل غضب على أبيه إذ لم يقبل إليه، وأخذ ابنه وقال‏:‏ أنا أسير إلى بلاده بنفسي‏.‏

فانزعج الناصر لذلك، وبعث بحريمه وأهله إلى الكرك ليحصنهم بها، وخاف أهل دمشق خوفاً شديداً، ولا سيما لما بلغهم أن التتار قد قطعوا الفرات، سافر كثير منهم إلى مصر في زمن الشتاء، فمات ناس كثير منهم ونهبوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وأقبل هولاكو خان فقصد الشام بجنوده وعساكره، وقد امتنعت عليه ميافارقين مدة سنة ونصف، فأرسل إليها ولده أشموط فافتتحها قسراً وأنزل ملكها الكامل بن الشهاب غازي بن العادل فأرسله إلى أبيه وهو محاصر حلب فقتله بين يديه، واستناب عليها بعض مماليك الأشرف، وطيف برأس الكامل في البلاد‏.‏

ودخلوا برأسه إلى دمشق فنصب على باب الفراديس البراني، ثم دفن بمسجد الرأس داخل باب الفراديس الجواني، فنظم أبو شامة في ذلك قصيدة يذكر فيها فضله وجهاده، وشبهه بالحسين في قتله مظلوماً ودفن رأسه عند رأسه‏:‏

وفيها‏:‏ عمل الخواجة نصير الدين الطوسي الرصد بمدينة مراغة، ونقل إليه شيئاً كثيراً من كتب الأوقاف التي كانت ببغداد، وعمل دار حكمة، ورتب فيها فلاسفة، ورتب لكل واحد في اليوم والليلة ثلاثة دراهم‏.‏

ودار طب فيها للطبيب في اليوم درهان‏.‏

ومدرسة لكل فقيه في اليوم درهم‏.‏

ودار حديث لكل محدث نصف درهم في اليوم‏.‏

وفيها‏:‏ قدم القاضي الوزير كمال الدين عمر بن أبي جرادة المعروف‏:‏ بابن العديم إلى الديار المصرية رسولاً من صاحب دمشق الناصر بن العزيز يستنجد المصريين على قتال التتار، وأنهم قد اقترب قدومهم إلى الشام، وقد استولوا على بلاد الجزيرة وغيرها‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/250‏)‏

وقد جاز أشموط بن هولاكو خان الفرات، وقرب من حلب، فعند ذلك عقدوا مجلساً بين يدي المنصور بن المعز التركماني، وحضر قاضي مصر بدر الدين السنجاري والشيخ عز الدين بن عبد السلام، وتفاوضوا الكلام فيما يتعلق بأخذ شيء من أموال العامة لمساعدة الجند، وكانت العمدة على ما يقوله ابن عبد السلام، وكان حاصل كلامه أنه قال‏:‏

إذا لم يبق في بيت المال شيء، ثم أنفقتم أموال الحوائض المذهبة وغيرها من الفضة والزينة، وتساويتم أنتم والعامة في الملابس سوى آلات الحرب بحيث لم يبق للجندي سوى فرسه التي يركبها، ساغ للحاكم حينئذ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء عنهم، لأنه إذا دهم العدو البلاد، وجب على الناس كافة دفعهم بأموالهم وأنفسهم‏.‏

 ولاية الملك المظفر قطز

وفيها‏:‏ قبض الأمير سيف الدين قطز علي ابن أستاذه نور الدين علي الملقب بالمنصور، وذلك في غيبة أكثر الأمراء من مماليك أبيه وغيرهم في الصيد، فلما مسكه سيره مع أمه وأبنيه وأخوته إلى بلاد الإشكري، وتسلطن هو وسمى نفسه‏:‏ بالملك المظفر‏.‏

وكان هذا من رحمة الله بالمسلمين، فإن الله جعل على يديه كسر التتار كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

وبان عذره الذي اعتذر به إلى الفقهاء والقضاة وإلى ابن العديم، فإنه قال‏:‏ لا بد للناس من سلطان قاهر يقاتل عن المسلمين عدوهم، وهذا صبي صغير لا يعرف تدبير المملكة‏.‏

وفيها‏:‏ برز الملك الناصر صاحب دمشق إلى وطاء، برز في جحافل كثيرة من الجيش والمتطوعة والأعراب، وغيرهم ولما علم ضعفهم عن مقاومة المغول أرفض ذلك الجمع، ولم يسر لا هو ولا هم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/251‏)‏